فيما كان عددٌ من الشبّان اللبنانيّين "ينتفض" ضدّ ما يصفونه بـ"التدخّل السافر" الذي تمارسه السفارة الأميركية بشخص السفيرة دوروثي شيا في لبنان، على خلفيّة المعركة "المُفتعَلة" التي أثيرت أخيراً انطلاقاً من بعض تصريحاتها الصحافيّة، كان رئيس الحكومة حسّان دياب يعقد مع شيا اجتماعاً مطوّلاً، ويستبقيها إلى مائدة الغداء.
هي "مفارقة" قد تكون محض صدفة لكنّها قد لا تكون كذلك أيضاً، خصوصاً حين تتزامن مع سلسلة مؤشّرات تدلّ على فتح "صفحة جديدة" في العلاقة بين الحكومة اللبنانية والإدارة الأميركية، تعكس في جانبٍ منها ما يمكن وصفها بـ"الليونة"، الواقعة على خطّ وسط بين "الواقعية" و"الانفتاح"، ولو بشكلٍ نسبيّ.
ولعلّ ما حملته الكواليس السياسية من تسريباتٍ عن "انفتاحٍ" عربيّ وغربيّ على لبنان، يعزّز هذه "الفرضية"، باعتبار أنّه الأول من نوعه منذ انفجار الأزمة السياسية والاقتصادية، ولو بقي "محدوداً" في الشكل والمضمون، إلا أنّه يحمل الكثير من "الرمزية"، لجهة فكّ "الحصار"، الذي يشكو دياب منه منذ وصوله إلى السراي...
"براغماتية" وأكثر...
قبل أقلّ من أسبوعين، كانت العلاقة بين لبنان والولايات المتحدة تدخل منعطفاً خطيراً وغير مسبوق، بعد قرار قضائيّ استهدف السفيرة الأميركية، على خلفيّة تصريحاتٍ قيل إنّها عكّرت صفو العلاقات، قبل أن "تُطوى" صفحته، بـ"استدعاءٍ" وُصِف بـ"الشكليّ"، ولو اعتبره البعض أقرب لـ"الاعتذار" من أيّ شيءٍ آخر.
يومها، أصرّت السفيرة الأميركية على أقوالها، وذهبت بعيداً في مناهضة الحكومة اللبنانية، معتبرة "رحيلها" مطلباً بديهياً لا يمكن للبلاد أن تستقرّ من دون تحقيقه، ما دفع رئيس الحكومة إلى "التصعيد" بدوره، تارةً عبر هجومه العلنيّ على الدبلوماسيّين، وطوراً عبر سلوكه درب "الانفتاح شرقاً".
ومع أنّ التصعيد اللبناني إزاء واشنطن استمرّ فصولاً، وصولاً إلى حدّ تنظيم تظاهرةٍ ضدّ التدخّلات الأميركيّة على أبواب السفارة الأميركيّة، إلا أنّ "تعديلاً" على "قواعد اللعبة" طرأ في "الوقت الضائع"، فظهرت "ليونة" لافتة كبديلٍ عن "الحدّة" في الخطاب، وهو ما بدأ بمواقف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، مع الحفاظ على اللهجة القاسية لجهة الإصرار على منع "حزب الله" من السيطرة على الحكومة، وتُرجِم بالأجواء "الودية" التي حرصت أوساط السراي على تسريبها بعد لقاء دياب وشيا، وصولاً إلى حدّ الحديث عن توافق بين الجانبين على جملةٍ من الأمور العمليّة التي ستتبعه.
ثمّة من يردّ الأمر إلى ما توصف بـ"البراغماتية" الأميركية، والتي طبعت التعاطي الأميركي مع الكثير من الملفّات والقضايا، وهي "براغماتية" يختصرها كلام بومبيو الأخير والواضح عن لبنان، حين قال إنّ بلاده لن تقبل أن يصبح لبنان "دولة تابعة لإيران"، مقرناً القول بتجديد "العهد" بدعم لبنان، ولو أنّه وضع "شروطاً" واضحة لذلك، وهو ما قرأ فيه كثيرون "فرملة" لسياسة "الحصار" المُطلَق، نتيجة "القلق" ربما من اندفاع الحكومة نحو الشرق، خصوصاً بعدما "تعمّد" رئيسها الانطلاق على خطّها بخطى ثابتة وواضحة.
ماذا عن "الترجمة"؟!
لا شكّ أنّ "البراغماتية" الأميركية جاءت لتلاقي رسائل "منفتحة" من الداخل اللبناني، ولا سيما في شقّه المناهض للإدارة الأميركية، إذ إنّ مواقف الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير كانت لافتة، لجهة حرصه على ترك الباب مفتوحاً أمام علاقةٍ "متوازنة"، إن جاز التعبير، مع الولايات المتحدة، وتأكيده على أنّ الانفتاح على الشرق، وهو الخيار الذي يدفع نحوه "حزب الله" منذ ما قبل ولادة الحكومة الحاليّة، لا يعني "معاداة" للغرب، أو إقفالاً للباب أمامه.
وهناك من يقول إنّ التظاهرة أمام السفارة الأميركية والتي كان "حزب الله" من العاملين على خطّها، من خلف الكواليس، ومن خلال بعض المجموعات المقرّبة منه، جاءت "مدروسة" في الحجم والشكل، انسجاماً مع هذه "البراغماتيّة" أيضاً، بحيث توصل الرسائل المتوخّاة منها، من دون أن تُحدِث "انقلاباً" في الموازين على الأرض. ومع أنّ التظاهرة شهدت بعض "المناوشات" مع القوى الأمنية، على خلفية محاولة تخطي السياج الشائك وإزالته، إلا أنّ المفاعيل بقيت "محدودة"، ولو أنّها فتحت "سجالاتٍ" سياسيّة داخلية قديمة-جديدة، كان لافتاً أنّ الأميركيّين، وهم المعنيّون المفترضون بها، بقوا بمنأى عنها.
لكلّ هذه الأسباب، ثمّة من يتحدّث عن "فرملة" للمنحى الذي كانت العلاقة بين الحكومة اللبنانية والإدارة الأميركيّة، ممثَّلةً بالسفارة، متّجهةً نحوه، "فرملة" كانت ترجمتها سريعة بالحديث عن "حراك" نَشِط على خطّ الأزمة اللبنانية، بدأت "أصداؤه" بالظهور من خلال زيارة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم إلى الكويت، مع ما تسرّب عنها من أجواء "إيجابية"، بعد رسالة رئاسيّة مصريّة تلقاها الرئيس ميشال عون، وحملت "الإيجابية" نفسها، على أن يُستكمَل في الأيام المقبلة من خلال زيارتين متوقّعتين لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، ولمسؤول قطري ترجّح بعض المعطيات أن يكون وزير الخارجية.
وإذا كان مثل هذا الحراك "استمدّ" زخمه من "ضوء أخضر" أميركيّ كان محجوباً طيلة الفترة الماضية، فإنّه لا يمكن أن يؤدّي إلى ترسيخ "وهمٍ" بأنّ "الانفتاح" العربي والدوليّ سيصل إلى ذروته في هذه المرحلة، بل هو قد يكون أقرب إلى "رفع العتب"، لأنّ "البراغماتية" الأميركية تبقى محدودة بـ "واقعية" مساعدة لبنان على عدم السقوط والانهيار، لا على "الإنقاذ" الجدّي، الذي تبقى له شروطٌ لا يعتقد الأميركيّون وغيرهم أنّ الحكومة الحاليّة توفّرها، وهم مصرّون على مواصلة الضغط على "حزب الله"، كما قال بومبيو، ومقتنعون بأنّ ذلك يمرّ من خلال "تضييق الخناق" على الحكومة المحسوبة عليه، ولو بصورةٍ نسبيّة.
"حديقة خلفيّة"
تماماً كما أنّ الحديث عن "حصارٍ" مفروضٍ على لبنان يحتمل الكثير من الأخذ والردّ، بعدما تحوّل إلى "ذريعة" تتمسّك بها الحكومة لتبرير "تقاعسها" في الكثير من الأحيان، فإنّ الحديث عن "فكّه" يبدو مثيراً للنقاش والجدل في أكثر من اتجاه.
ثمّة من يقول إنّه لا يوجد حصارٌ أصلاً حتى يُفَكّ، وأنّ الداء الحقيقيّ هو في قلب البيت الحكوميّ، وأنّ المطلوب من الحكومة اللبنانية القيام بواجباتها أولاً، قبل "الشكوى" من معاملة المجتمع الدوليّ لها، ومطالبته بمدّ يد "العون"، فيما هي تسير على خطى أسلافها لجهة "المساكنة" مع الفساد، وتكريس نهج "المحاصصة" وأخواتها.
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ على اللبنانيين أن يساعدوا أنفسهم أولاً، وفقاً للنصيحة "الفرنسيّة"، سواء صحّت نظرية "الاستهداف" أم لم تصحّ، لأنّ "الليونة" الأميركية، إن صحّت أيضاً، تبقى مجرّد "تفصيل" لن يعني أكثر من فتح "حديقة خلفيّة" للبنان في أحسن الأحوال، من دون أن تسمن أو تغني من جوع، بدأ يتحوّل مزمناً وأكثر...